الاثنين، 7 فبراير 2011

خَصْخَصَ تان

ـ ألا "أُونا".ألا "دُويا" ألا "ترِيا"..إلحق يا باشا.يالّلا يابيه. حاجة ببلاش كدا..كل شئ للبيع.أي شيء للبيع.عليه العوض ومنه العوض..صاح "المِعَلّم"ْ صاحب العزبة ـ التي قرر بيعها ـ والمزاد
ـ كل شئ؟؟؟ سأل أحد الواقفين
ـ أي شئ ..أجاب "المِعَلّمْ" بثقة واقتدار يحسد عليهما.المهم الموني.الدولار.الدينار
..لسترليني..الشيكل..
ـ عواد باع أرضه!!
ـ بلد وماشيه ف الضياع ...كل شيء فيها يُبَاع !!!
ـ بزنس إز بزنس..ياللا يا باشا..اشتري حاجة برخص التراب وخد التانية مجاناً.

ورث "المِعَلّمْ" العزبة عن أخيه المقتول فأصبح "سيد قراره" فيما يتعلق بمصيرها.تلك العزبة طيبة الأرض.طاهرة العرض.وفيرة الثمار.كثيرة الأطيار.يانعة الأزهار.ولكن سكانها مغلوبون علي أمرهم.مستكينون.مشغولون بلقمة العيش.كلما همّ أحدَهم بأن يقول لا، تجمّع حوله نفر من  "الغَفَر المركزي" وأوسعوه ركلاً وضرباً حتى تنقلب لاؤه نَعما0

علي أطراف العزبة توجد مجموعة من المعابد الأثرية ورثتها عن سكانها الأولين..وفي وسطها يوجد مُتحف كبير تعرض فيه أهم آثارها...يضم مجموعة من مومياوات هؤلاء السكان العظماء0

باع "المِعَلّمْ" معظم أرض العزبة..اشتراها غرباء..بعضهم أعداء..وكلما بِيع جزءُُ منها هلّلت زُمرة المنتفعين المحيطة به لقراره وهي تجأر بصوت أجش: موافقون موافقون.
ـ (قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(..تلاها الشيخ صادق أحد سكان العزبة متحسراَ وهو يري مِلْكية مباني العزبة ومنشآتها وشوارعها ومصانعها ومزارعها تنتقل شيئاَ فشيئاَ من أيدي أبنائها لأيدي الغرباء...والأعداء0
ـ صدق الله العظيم.الغريب أنه كلما ازدادت عمليات البيع ازددنا فقرا..عقّب الأستاذ صابر
ـ لأنهم لا يتقون الله فينا.أكثر من نصف سكان العزبة تحت خط الفقر
ومع ذلك أقرّ المعلم بانحيازه للأغنياء
ـ مع إنه كان فقيراَ مثلنا!!!
ـ لقد انفتحت العزبة علي آخرها وعلي البحريّ.بيعت مرافقها بأبخس الأثمان..حتى أعدائها يتقدمون لشراء ما يعرض منها للبيع
ـ آخر عرض قدموه طلبوا فيه شراء جزء من حديقة الحيوان!!
ـ علم سفارتهم الكئيبة يطل عليها من علٍ
ـ إنه يشبه شرّابة الخٌرْج
ـ حتى حيوانات العزبة لا يرحمونها؟؟
ـ وهل رحموا البشر حتى يرحموا الحيوانات؟؟!!
ـ عموما هم يعتبرون كل البشر سواهم حيوانات
ـ في الحقيقة هم أدني مرتبة من الحيوانات
ـ ومع ذلك يدعون أن أسلافهم هم الذين بنوا الأهرامات
ـ لقد ادعوا أنهم هم الذين صنعوا "الطعمية"
ـ حتى الطعمية؟؟!!

وعلى مقربةٍ من متحف العزبة اجتمع نفر من أهلها يتجاذبون أطراف الحديث:
ـ لقد سمعت أنهم ينوون بيع بعض أهرامات العزبة وبعض المقابر والتماثيل الأثرية
ـ مستحيل؟؟!!
ـ آثارنا سُرق بعضها وبيع بعضها الآخر بأيدي بعض أبناء العزبة
ـ لا تقل أبناءها..فهم خونة يهربون آثارهم بأيديهم وأيدي الخائنين..لا يستحقون شربة من مائها ولا نسمة من هوائها
ـ أتذكّرها منذ زمن وهي تتحدث عن نفسها
ـ أتحسر عليها اليوم وهي تتقلص علي نفسها
ـ ألم تسمع "المِعَلّمْ" وهو يقول: كل شيء للبيع؟؟
ـ إلا آثارنا..فهي ليست ملكاً لنا..لم نَبْنها..لقد تركها لنا أجدادُنا أمانةً في أعناقنا
ـ لقد خُنّا الأمانة!!
ـ ليس من حقنا التصرف فيها..وإذا سمحنا بذلك مرة فلن نجد علي أرضها أثراً واحداً بعد حين
ـ لقد سرق محتلو العزبة السابقين بعض آثارنا..ترى بعضها واقفٌٌ بأرضهم منتصب القامة بشموخ وهو يحكي للزمن قصة حضارتنا
ـ تقصد قصة حضارة أجدادنا..فنحن اليوم بغير حضارة..نعيش كالطفيليات علي منتجات الآخرين...مُحدَثين وأقدمين0
ـ عندما احتلت شبه جزيرتنا سرق اللصوص الجُدُدْ كل ما أمكنهم سرقته من آثار أجدادنا
ـ وكذلك فعلوا عندما غزوا جارتنا الشقيقة..كان أول ما فعلوه سرقة أهم آثار حضارتها العظيمة.
ـ الآن تباع هذه الآثار علنا في أسواق الدولة الغازية
ـ لعنها الله
ـ ولكن كيف سيبيعون الهرم؟؟؟
ـ بالقطاعي!!
ـ تقصد حجراً حجرا
ـ نعم فأحجار الأهرامات وفيرة..يمكن بيع بعضها ووضع أحجار مقلدة بدلا منها!!!!
ـ غِشْ تجاري؟؟!!
ـ غباء معيشة
وجاء من أقصى العزبة رجل يهرول صارخاً:
ـ قمر أفندي اتباع يا رجاله!!
ـ كمان!!!
ـ كان بيبيع حاجات رخيصة!!
ـ الله يرحم أيامه
ـ الله يرحم كل أيام زمان
ـ لن يكون هناك رخيص بعد اليوم سوي البني آدم
ـ نعم!! 5000 جنيه وبطانية
ـ دا إذا غرق في عبارة أو وقعت عليه عمارة
ـ أو اتحرق في قطر أو اندهس بسيارة
ـ أو وقعت بيه طيارة
ـ كيلو البتلو المشوي أرخص من لحم البني آدم المحروق!!
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله..والحل؟؟؟
ـ (...إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...)
ـ صدق الله العظيم
ـ ومتي نتغير؟؟
ـ العلم عند الله
ـ عواد باع أرضه يا ولاد..شوفوا طوله وعرضه يا ولاد!!
ـ إنهم يبنون مساكنهم فوق أخصب أراضي العزبة
ـ ثم يتجهون للرمال يستصلحونها!!
ـ ولماذا لا يبنون فوق الرمل ويتركون الطين للزراعة؟؟
ـ بل قل لماذا يلقون بمليارات الأطنان من مستلزمات البناء علي شواطئ العزبة ونصف سكانها يقطنون مساكن آيلة للسقوط وبعضهم يزاحم الأموات في مقابرهم
ـ وزيرهم لا يرى غضاضة في البناء علي الأرض الزراعية!!
ـ وأين هي الأرض الزراعية؟؟
ـ يقول أحد علمائهم أنها ستختفي خلال ستين عاماً إذا استمر معدل اقتطاعها لغير الزراعة بمعدله الحالي
ـ ولا حياة لمن تنادي!!
ـ منهجهم في إدارة شئون العزبة: نحن ومن بعدنا الطوفان
ـ هذا صحيح..فالطوفان قادم قادم وسيغرق أطرافها الشمالية بماء البحر مع ازدياد ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي
ـ الاحتباس الحراري!!
ـ بل قل الاحتباس المراري..فقد أوشكت مرارتي علي الانفجار مما يحدث لنا
ـ ولا تنس الاحتباس المروري
ـ هذه كارثة أخري
ـ نعم مثل كارثة المحور..تعجلوا في إنشائه ليقولوا أنجزناه قبل موعده والآن ينفقون "دم قلبهم" كي يصلحوه
ـ بعد الكوارث اللي نتجت عنه
ـ تقصد دم قلوبنا
ـ ألف رحمة علي أيام المساكن الشعبية
ـ أصبحت ذكريات.أغنيات
ـ أنا قلبي مساكن شعبية !!!

وبعد انصراف القوم وفي سكون الليل بعدما خف الزحام قليلا حول متحف العزبة تضرعت بعض مومياواته إلي خالقها أن يردها إلي الحياة ولو لعدة أيام..لقد مات أصحابها منذ آلاف السنين وهم يعتقدون أنهم في يوم ما سيبعثون..لذلك كانوا يحتفظون بمجوهراتهم وكنوزهم في أماكن سرية لا يعرفها سواهم من ملوك الأجداد العظام..
تحرّكت المومياوات ولم يتحرك البشر الأحياء.. 
وقبل الفجر بقليل قالت مومياء ملك سابق لمومياء ملك لاحق من أصحاب الحضارة العريقة:
ـ أسمعت ما دار من حوار؟؟
ـ سمعت وأصابني الهم والغم
ـ وما هو الحل؟
ـ بعدما أحيانا إلهُنا..لابد أن نشكره أولاً
وبعد أداء صلاة صامتة في جوف الليل استأنفت مومياوتا الملكين حوارهما بعد أن شاركتهما فيه عدة مومياوات ملكية أخري:
ـ هل سنترك أحفاد أحفادنا يفرّطون فيما تركناه لهم؟؟
ـ لا..لن يحدث..رغم شَكّي في أنهم من سلالتنا
ـ بأفعالهم هذه من المستحيل أن تكون الدماء التي تجرى في عروقهم هي دماؤنا
ـ ليس هذا هو موضوع نقاشنا..المهم كيف سنحل هذه المشكلة..ربما باعونا نحن بعد قليل
ـ سمعت أن بعضهم يسرق جثث موتاهم بعد دفنها ويبيعها لطلاب كلية الطب
ـ وأنا سمعت أن هناك مومياوات مسروقة ومباعة خارج العزبة
ـ لا أعتقد أنهم سيبيعوننا...إنهم يعرضوننا للسيّاح مقابل أموال طائلة
ـ طوال التاريخ ينبشون قبورنا وأهرامنا بحثاً عن كنوزنا
ـ سامحهم الله..وحتى لو حصلوا عليها كلها..لن يظهر لبيعها أثر
ـ ألم ترْ أن العزبة بعد انفتاحها وخصخصتها ازداد سكانها فقرا؟؟
ـ يقولون أن زيادة سكان العزبة هي السبب
ـ السبب ليس في زيادة السكان..السبب سياساتهم الفاشلة
ـ لم تفلح إدارة العزبة في حل أية مشكلة تعاني منها
ـ ولن تفلح
ـ لا يجدون الخبز ويقتتلون في طوابيره
ـ هذا غير الماء الملوث والهواء الملوث
ـ السحابة السوداء
ـ حياتهم أصبحت سوداء
ـ هذا غير الأسفلت الأسود الذي تحول الي اللون الأحمر
ـ نعم 73 ألف قتيل في عام واحد كما قال بذلك أحد كبرائهم
ـ لا تنس العبارة والألف والثلاثمائة غريق
ـ رحمهم الله...ذكروني بجند فرعون الذين غرقوا أيضا في البحر ذاته
ـ الجنود كانوا يتبعون الطغاة..أما هؤلاء فأبرياء كانوا يسعون وراء لقمة العيش التى لم يجدوها في بلدهم
ـ دعونا من هذه الموضوعات..كيف سنوقف بيع آثارنا؟؟
ـ لدي حل
ـ وما هو؟
ـ نشتريها نحن
ـ كيف؟!
ـ اسمعوا..في المخزن المجاور ملابس عمال نظافة المتحف نستطيع ارتداؤها ونخرج صبيحة يوم المزاد..وهو بالمناسبة سيكون يوم عطلة المتحف ونسترد بعضاً من ذهبنا ومجوهراتنا ونبيعها ونشتري بثمنها ما سيعرضونه من آثار.

وقبل شروق يوم المزاد الكبير خرجت مجموعة من الأفراد من متحف العزبة واتجهت نحو أحد محلات قمر أفندي فوجدت لافتته قد تغيرت وأصبحت مكونة من حرفين متداخلين...وبعد ساعات فتحت المحلات التجارية أبوابها فاشترت المجموعة ما يناسب كل فرد منها من ملابس عصرية واستقلوا إحدى سيارات الأجرة متجهين نحو مكان المزاد.

ـ ألا "أُونا" ألا "دُويا" ألا "ترِيا"..إلحق يا باشا.يالّلا يابيه. حاجة ببلاش كدا..كل شئ للبيع.أي شيء للبيع.عليه العوض ومنه العوض..صاح "المِعَلّم"ْ صاحب المزاد
ـ سنشتري المعروضات بالذهب والمجوهرات..قال أحد أفراد المجموعة
ـ لا شيء يهم...المهم تكون أصلية..اعرضوها علي الخبير
وعندما أقر الخبير بأصلية الذهب والمجوهرات لم يستطع أحد من المزايدين عرض أسعار أعلي مما عرضته المجموعة فرسي عليها المزاد..وهنا قال أحدهم:
ـ أيها المزايدون..لم يعد كل شيء قابل للبيع..كل شيء يباع إلا تراث أجدادكم..افيقوا يرحمكم الله..ولسوف نفجّر لكم مفاجأة كبرى..سنتبرع بما اشتريناه لمتحف عزبتكم..ونرجو أن تحافظوا عليه ولا تعرضوه للبيع مرة أخرى..وسنتوجه بما اشتريناه الي المتحف في الحال.

وبُهت الذي باع والذي أراد الشراء..بُهت الذي خسر..وجاءت وسائل الإعلام لتسجل هذا الحدث الفريد..أناس يشترون بما لديهم من ذهب ومجوهرات ما عرض في المزاد من معابد وتماثيل ومومياوات..وعندما بحث رجال الإعلام عن هؤلاء الكرماء الذين أنقذوا العزبة من الضياع لم يجدوهم..ظنوا أنهم غادروا المتحف ولم يدرك أحد منهم أن المومياوات قد عادت إلي توابيتها راضية مرضية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق