الاثنين، 7 فبراير 2011

عندما كنت

ـ عندما كنت في الثامنة من عمري سقط بالقرب منى عامود رخامي مشتعل بنابالم ألقته طائرات الأعداء..لقد رأيت حمام السلام وهو يفر من أعشاشه مشتعلا قبل أن يسقط محترقا..بعدها طاردني العامود..تدحرج نحوي..حشرني ما بينه وبين الرصيف بعد أن تعثرت قدماي..ها هي آثاره المحرقة تفترش مسطح قدمي اليسري كخاتم أبدي يدل علي خستهم ونذالتهم..كان ذلك في حرب 1956 عندما احترق حي المناخ برمته..الحي ذي المساكن الخشبية التي يقطنها فقراء بورسعيد والذي احترق عن آخره بفعل "النابالم"..

كشف العجوز الذي تجاوز الستين من عمره بشهور عن قدمه اليسرى والوحيدة.ذلك الذي اتخذ من مقهىً مجاور لمسكنه مكاناً يحكى فيه لأصدقائه ذكريات عمره الذي أصبحت هي كل ما يمتلك..تنهد وهو ينظر إلي تلفاز المقهى الذي جلست أمامه مجموعة من الشباب تشاهد مطربة شبه عارية تتلوى كحية رقطاء..وهم فاغرين أفواههم في بلادة واشتهاء..

ـ هذا شرف عظيم..وسامُ علي صدرك..قال صديق
ـ هل لديك أبناء..سأله آخر
ـ عندي ببغاوان ـ ناظراً في ساعة يده ـ هذا موعد إطعامهما وتناول علاج المساء..اسمحوا لي..
ـ مع السلامة

في أمسية تالية أقبل العجوز المبتور الساق يتوكأ علي عصاه..وهو يأخذ رشفة من كوب الشاي..اتكأ ببطن يده علي مقبض عصاه..أسند رأسه فوق ظهر كف يده.سرح بخياله. تذكر شيئا.فجأة قال:
ـ عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري تطوعت في قوات الدفاع الشعبي..كنت وقتها في المرحلة الثانوية..تسلمت سلاحي الآلي الذي عشقته كثيراً.كنت أستذكر دروسي ليلة في منزل الأسرة علي ضوء "لمبة كيروسين" وليلة أخري خارج المنزل عندما كان يحين وقت "راحتي" من نوبة حراستي..علي ضوء عامود الإنارة الخافت أو في ضوء القمر..

ـ ومع ذلك حصلت علي مجموع كبير أعطاك المرتبة الثانية علي طلاب كل المدينة في امتحان الثانوية العامة وأدخلك الجامعة..أردف صديق..
ـ كانت أياما كئيبة..يوم كنت أعتني بجنودنا العائدين من سيناء في أعقاب النكسة وهم يروون لي أنهم لم يقاتلوا..لم يواجههم العدو..أخذوا على غرة..
ـ الحمد لله فبعد ذلك بعدة سنوات لقنّا ذلك العدو الجبان درساً لم ينسه.
ـ الحمد لله0

بعدما خلا المقهى من معظم رواده بعد انتهاء إحدى مباريات كأس العالم في كرةالقدم..التف الأصدقاء حول "عجوزهم" الذي أمطرهم بالعديد من ذكرياته:
ـ عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري التحقت بالجندية بعدما أنهيت دراستي الجامعية.توقف عن الحديث قليلا...سرح ببصره بعيدا..تنهد بعمق:كان ذلك في عام 1972.هز رأسه أكثر من مرة..أردف:
ـ بعدها بعام عبرنا القناة..حطمنا خط بارليف..وأسطورة الجيش الذي لا يقهر..انتصرنا..محونا عار الهزيمة..أعدنا الفرحة إلى بلدنا العظيم..وفي نهاية الحرب..وأثناء القتال..بترت ساقي اليمنى..
ـ هذا أكبر وسام علي صدرك..لقد كرمتك بلدك كلها أنت ورفاقك من الأبطال الشجعان..منحتكم الأنواط وشهادات التقدير..قال صديق..

نظر العجوز إلي ساقه المبتورة بفخر والي صدره ـ حيث يعلق نيشاناً عسكرياً ـ باعتزاز..أردف:
ـ لم تبخل علينا بلدنا بكل ما احتجناه..أعطتنا المكافآت المالية والأنواط..مكنتنا من أداء الحج والعمرة..حتى الآن أنا أحصل علي معاش عسكري شهري يوفر لي حياة كريمة..ولكن (توقف قليلا عن الكلام):لماذا لم نعد نسمع في المذياع أو التلفاز أغان وطنية؟؟ أنا كل ليلة قبل النوم أضع في جهاز تسجيلي شريط "كاسيت" به أغانٍ وطنية....كل ليلة....لا يمكن أن أنام دون سماعها........لماذا....

بعدما شعر بالمرارة تغزو حلقه توقف عن الكلام..هب واقفا..نظر في ساعة يده..أفل عائدا إلي بيته...بعدما رأي الكثيرين من أصدقائه يتجهون بأبصارهم نحو شاشة تلفاز عملاقة تهتز مع اهتزاز وسط راقصة شبه عارية.

لاحظ العجوز والحزن يملأ قلبه أن عدد المستمعين إلي حكاياته يتناقص ليلة بعد أخري بينما يتزايد عدد الجالسين أمام تلفاز المقهى.

في أمسية تالية لم يجد أحدا من أصدقائه في انتظاره.بحث عنهم.وبعدما أضناه البحث غفا قليلا.وفجأة أفاق علي تأوهات شهوانية وصراخ إعجاب هستيري..تنهد بأسىً وهو ينظر إلي تلفاز المقهى وقد جلست في مواجهته مجموعة من رواد المقهى صغار السن ـ فاغرين أفواههم في بلادة واشتهاء ـ يتوسطهم معظم أصدقائه يشاهدون مطربة تتلوى شبه عارية كحية رقطاء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق